يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد"، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في محاللة الحقوق:
قال أبو العبّاس القرطبيّ في "المفهم": اختَلَف العلماء في المحاللة من الحقوق، فقال سعيد بن المسيِّب: لا أحلِّل أحدًا، وظاهره أنه كان لا يُجيز أن يعفو عن حقّ وجب له، ولا يُسقطه، ولم يفرّق بين الظالم، ولا غيره، وهذا هو الذي فَهِمه مالك عنه.
وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق، وإسقاطها، وإليه ذهب محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد كان يُحلّل مَن ظلمه، ويكره لنفسه الخصوم.
وفرّق آخرون بين الظالم، فلم يحللوه، وبين غيره، فحلّلوه، وإليه ذهب إبراهيم النخعيّ، وهو ظاهر قول مالك، وقد سئل، فقيل له: أرأيت الرجل يموت، ولك عليه دَين، ولا وفاء له به؟ قال: أفضل عندي أن أحلّله، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك، قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية [الشورى: ٤٢] فظاهر هذا: أن الظالم لا يجوز أن يُحلَّل، ولم يفرّق بين الحقوق، فيكون مذهبه كمذهب النخعيّ المتقدّم، غير أنه قد رُوي قول مالك هذا بلفظ آخر، فقال: أما الرجل يغتاب الرجل، وينتقصه، فلا أرى ذلك، ففَهِم بعضُ أصحابنا من هذا أن ترك المحاللة إنما مَنَعه في الأعراض خاصّة، وأما في سائر الحقوق فيجوز. وسبب هذا الخلاف، هل تلك الأدلة مُبْقاةٌ على ظواهرها من التعميم، أو هي مُخَصّصة، فيخرج منها الظالم؛ لأنَّ تحليله من المظالم يجرّؤه على الإكثار منها، وهو ممنوع بالإجماع، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية [المائدة: ٢]؟ وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سدّ ذريعة الأعراض ليَسَارتها، وتساهُل الناس في أمرها، فاقتضى ذلك المبالغة في الردع عنها، فاذا عَلِم الذي يريد أن يغتاب مسلمًا أن الغِيبة، وأعراض المسلمين لا يُعفَى عنها، ولا يُخرج منها، امتنع من الوقوع فيها. قال القرطبيّ - رحمه الله -: ويردّ على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها، والانفصال عنها، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم، لا سيما مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيعجز أحدكم