للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقًا من خصائص النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك، وإن كان مباحًا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا، فلا يظهره؛ كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر، فيظن من يراه، ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يصرح بإرادته الغرب، وإنما مراده الشرق فلا، والله أعلم.

وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض، لا التصريح بالتأمين مثلًا، قال: وقال المهلَّب: موضع الشاهد للترجمة من حديث الباب قول محمد بن مسلمة: "قد عنّانا، وسألَنا الصدقة"؛ لأن هذا الكلام يَحْتَمِل أن يُفْهَم أن اتّباعهم له إنما هو للدنيا، فيكون كذبًا محضًا، ويَحْتَمِل أن يريد أنه أتعبنا بما يقع لنا من محاربة العرب، فهو من معاريض الكلام، وليس فيه شيء من الكذب الحقيقيّ الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ثم قال: ولا يجوز الكذب الحقيقيّ في شيء من الدِّين أصلًا، قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: "من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار". انتهى (١).

قال الجامع عفا الله عنه: لا إشكال في حديث: "من كذب عليّ متعمِّدًا إلخ"، فإن الذي قاله هو الذي قال: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس إلخ"، فكلٌّ من عند الله تعالى، فلا تعارُض، بل الكذب المحرّم هو الذي لا يتضمّن جلب مصلحة، أو دَفْع مفسدة، وأما الذي يجوز من الكذب، فهو المتضمّن لذلك، وليس فيه إضاعة حقّ لمسلم، فافهم الفرق، تعرف الحقّ.

والحاصل: أن الصواب أن الحديث على ظاهره، فيحلّ الكذب في الأشياء الثلاثة التي استثناها الشارع في تحريم الكذب ولو كان صريحًا، لكن إذا وجد مندوحة، فالأَولى أن يستعمله، وإلا فالصريح جائز، وقد تقدم عن القرطبيّ ترجيح هذا القول، وعَزَاه إلى أكثر العلماء، والله تعالى أعلم.


(١) "الفتح" ٧/ ٢٨٤ - ٢٨٥، كتاب "الجهاد" رقم (٣٠ - ٣١).