أحدهما: أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقًا في وقوع ما قُدّر عليه، إلا بإذن من الله تعالى، فيكون الشارع هو اللائم، فلمّا أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذَن له في ذلك، عارضه بالقدر فأسكته.
والثاني: أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه، فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم؛ لأنه فِعل الله، ولا يُسأل عما يفعل.
[ثالثها]: قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم؛ لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعًا، كما قال تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}[البقرة: ٣٧]، فحسُن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة" لأنه كان قد تيب عليه من ذلك، وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية، كما لو قتل، أو زنى، أو سرق: هذا سَبَق في علم الله وقدّره عليّ قبل أن يخلقني، فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك، بل على استحباب ذلك، كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة، قال: وقد حَكَى ابنُ وهب في "كتاب القدر" عن مالك، عن يحيى بن سعيد: أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه.
[رابعها]: إنما توجهت الحجة لآدم؛ لأن موسى لامه بعد أن مات، واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي، ويقام عليه الحد والقصاص، وغير ذلك، وأما بعد أن يموت، فقد ثبت النهي عن سَبّ الأموات، "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير"؛ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يُثني العقوبة على من أُقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمَة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك، فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه، فسقط عنه اللوم، فلذلك عَدَل إلى الاحتجاج بالقدر السابق، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه غلب موسى بالحجة.
قال المازريّ: لَمّا تاب الله على آدم، صار ذِكر ما صَدَرَ منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق، فلذلك غلب بالحجة.