للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الأرواح، ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب، وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق. قال الحافظ: وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها (١).

وذهب شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى إلى أن احتجاج آدم على موسى -عَلَيْهِ السَّلام- كان في المصائب، لا في الذنوب، قال: وقد ظنّ قوم أن آدم احتجّ بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظنّ ثلاثة أحزاب:

(فريق): كذّبوا بهذا الحديث، كأبي عليّ الجبّائيّ وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بل وجميع الأنبياء، وأتباع الأنبياء أن يَجعلوا القدر حجة لمن عصى الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

(وفريق): تأوّلوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: إنما حَجَّه لأنه كان أباه، والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في أخرى. وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة. وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.

(وفريق ثالث) جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالف لأمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم يمكنهم طَرْد ذلك، فلا بدّ في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضرّ نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتجّ بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره، كما قيل في مثل هذا: أنت عند الطاعة قدريّ، وعند المعصية جبريّ؛ أي: أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتجّ بالقدر، ولو أذنب غيره، أو ظلمه لم يعذُره، وهؤلاء ظالمون مُعْتَدُون.

ومنهم من يقول: هذا في حقّ أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبيّة، وفنُوا عما سوى الله، فيرون أن لا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنةً،


(١) راجع: "الفتح" ١١/ ٦٢٢ - ٦٣٤.