ولا يستقبحون سيّئةً، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلًا، بل لا يرون فاعلًا إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلًا، فإنه يُذَمُّ ويُعاقَب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفيّة المدّعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم.
قال: وممن يُشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة، كقول ابن سينا بأن يشهد سرّ القدر، والرازيّ يقرّر ذلك؛ لأنه كان جبريًّا محضًا.
وفي الجملة فهذا المعنى دائر في نفوس كثير من أهل العلم والعبادة، فضلًا عن العامّة، وهو مناقض لدين الإسلام.
قال: إذا عرفت هذا، فنقول: الصواب في قصّة آدم وموسى -عَلَيْهِ السَّلام- أن موسى لم يَلُم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريّته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ، ولهذا قال:"لمَا أخرجتنا ونفسك من الجنّة؟ "، ولم يقل: لماذا خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟. إلى آخر كلامه -رَحِمَهُ اللهُ- (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صوّبه شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- من أن لوم موسى لآدم -عَلَيْهِ السَّلام- على المصيبة، لا على الذنب هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته، كما فصّله -رَحِمَهُ اللهُ- تفصيلًا حسنًا، وحققه تحقيقًا بليغًا، فراجعه تستفد.
ثم رأيت ابن أبي العزّ شارح "العقيدة الطحاويّة" -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر نحو ما سبق عن ابن تيميّة -رَحِمَهُ اللهُ- فقال: نتلقى هذا بالقبول، والسمع، والطاعة؛ لصحّته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نتلقّاه بالردّ والتكذيب لراويه، كما فعلت القدريّة، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم -عَلَيْهِ السَّلام- لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربّه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر، فإنه باطلٌ، وموسى -عَلَيْهِ السَّلام- كان أعلم بأبيه، وبذنبه من أن يلوم آدم -عَلَيْهِ السَّلام- على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه، وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنّة، فاحتجّ آدم -عَلَيْهِ السَّلام- بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب، لا عند المعايب.