الآية [الروم: ٣٠] لأن معنى المأمور به بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ}[الروم: ٤٣]: اثبُت على العهد القديم المعنيّ في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف: ١٧٢].
وثانيها: ما جاء في طرق هذا الرواية: "ما من مولود إلا وهو يولد على الملّة"، وكذا أورد الترمذيّ هذا الحديث في كتابه بغير لفظة الفطرة، ولفظه:"كل مولود يولد على الملّة"؛ لأن الدِّين في قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عَيْن الملّة؛ لقوله تعالى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[الأنعام: ١٦١] وقوله -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن الله تعالى:"إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم. . ." الحديث، أخرجه مسلم.
وثالثها: التشبيه بالمحسوس المعايَن؛ ليفيد أن ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهَد، ثم قيّده بقوله:"هل تحسّونه" تقريرًا لذلك، كما سبق.
وتلخيصه: أن العالَم إما عالم الغيب، وإما عالم الشهادة، فإذا نُزِّل الحديث على عالم الغيب أشكل معناه، وإذا صُرِف إلى عالم الشهادة الذي عليه مبنى ظاهر الشرع، سهل تعاطيه، كما قال الخطّابيّ.
وتحريره: أن الناظر إذا نظر إلى المولود نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنه وُلد على الخلقة التي خَلَق الله الناس عليها، من الاستعداد للمعرفة، وقبول الحق، والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب، حَكَمَ بأنه لو تُرك على ما هو عليه، ولم يَعْتَوِره من الخارج ما يَصُدّه عن النظر الصحيح من فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإِلْف بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك، استَمَرّ على ما كان عليه من الفطرة السليمة، ولم يَختر عليه شيئًا، وَينظُر فيما نُصب من الدلائل على التوحيد، وصِدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وغير ذلك نظرًا صحيحًا يوصله إلى الحقّ، ويهديه إلى الرّشْد، وعَرَف الصواب، واتّبَع الحقّ، ودخل في الملة الحنيفية، ولم يلتفت إلى ما سواها، لكن يصدُّه عن ذلك أمثال هذه العوائق.
[فإن قلت]: أمْر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا البناء؛ لأنه لم يُلحق بأبويه، بل خيف إلحاقهما به؛ لقول تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا