يَحْتَمِل هذا الخلاف أن يُحْمَل على ما قلناه آنفًا، قال القاضي: وقد يكون أمْره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو - صلى الله عليه وسلم - حاضرٌ معهم، فيرجعون إليه في مُشْكِله، ويقطع تنازعهم بتبيانه.
قال القرطبيّ: ويظهر لي أن مقصود هذا الحديث: الأمر بالاستمرار في قراءة القرآن، وفي تدبّره، والزجرُ عن كل شيء يقطع عن ذلك، والخلاف فيه في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه، أو معانيه، والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن ردّه على الفور، فأمَرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب، ويستفاد هذا من قوله:"اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم"، فإن القراءة باللسان، والتدبّر بالقلب، فأمَر باستدامة القراءة مُدّة دوام تدبّر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبّر.
وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحثْ عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويُفرد لذلك وقتًا غير وقت القراءة، والله أعلم.
والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاونَ على فهمه، واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ملازمين الأدب والوقار، فإن اتفقت أفهامهم، فقد كَمُلت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الظنون، ومواضع الاجتهاد، فحقّ كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يُثَرِّب على الآخر، ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم يكن كذلك فحقّه الرجوع إلى قول الأعلم، فإنَّه عن الغلط أبعدُ وأسلمُ، وأما إن كان ذلك من المسائل العلمية فالصائر إلى خلاف القطع فيها محروم، وخلافه فيها محرّم مذموم، ثم حُكمه على التحقيق: إما التكفير، أو التفسيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه اللهُ (١)، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.