فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي إمام الحرمين (ت ٤٧٨ هـ)، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خلّيت أهل الإسلام، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء، نَهَى عنه أهل العلم رغبةً في طلب الحق، وهربًا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الْجُوَينيّ.
وقال لأصحابه عند موته: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغتُ، ما تشاغلت به. وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسيّ خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم مني؟ قالوا: لا، قال: فتَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحقّ معهم. وقال أبو الوفاء بن عَقِيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب. وهذا الشهرستاني، صاحب "نهاية الإقدام في علم الكلام" وَصَف حاله فيما وصل إليه من علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله:
قال القرطبيّ: ولو لم يكن في الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذمّ، وجديرًا بالذِّكر:
[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر.
[والثانية]: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرّروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره: أباه، وأسلافه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تُشَنِّع عليّ بكثرة أهل النار. قال: وقد رَدّ بعض من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلّمين ما على من قال بهما،