٦ - (ومنها): ما قاله ابن بطال -رحمه الله-: التوفيق بين الآية والحديث في ذم العمل بالرأي، وبين ما فعله السلف من استنباط الأحكام أن نص الآية ذمّ القول بغير علم، فُخَصّ به من تكلم برأي مجرد عن استناد إلى أصل، ومعنى الحديث: ذمّ من أفتى مع الجهل، ولذلك وَصَفهم بالضلال، والإضلال، وإلا فقد مَدَح من استنبط من الأصل بقوله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣]، فالرأي إذا كان مستندًا إلى أصل من الكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع، فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها، فهو المذموم، قال: وحديث سهل بن حُنيف، وعمر بن الخطاب، وإن كان يدلّ على ذمّ الرأي، لكنه مخصوص بما إذا كان معارضًا للنصّ، فكأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السُّنَّة، كما وقع لنا حيث أَمَرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالتحلل، فأحببنا الاستمرار إلى الإحرام، وأَرَدْنا القتال؛ لنكمل نسكنا، ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، مما حُمدت عقباه، وعمر هو الذي كتب إلى شُريح:"انظر ما تبيّن لك من كتاب الله، فلا تسأل عنه أحدًا، فإن لم يتبيّن لك من كتاب الله، فاتّبع فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وما لم يتبيّن لك من السُّنَّة، فاجتهد فيه رأيك"، هذه رواية سيّار، عن الشعبيّ، وفي رواية الشيبانيّ عن الشعبيّ، عن شريح: أن عمر كتب إليه نحوه، وقال في آخره:"اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن، فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن، فإن شئت فتقدّم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التاخر إلا خيرًا لك"، فهذا عمر أمَر بالاجتهاد، فدلّ على أن الرأي الذي ذمّه: ما خالف الكتاب، أو السُّنَّة.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن ابن مسعود، نحو حديث عمر، من رواية الشيبانيّ، وقال في آخره:"فإن جاءه ما ليس في ذلك، فليجتهد رأيه، فإن الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، فَدَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك". انتهى (١)، والله تعالى أعلم.