للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

النسائيّ، وابن حبان، في "صحيحه"، فقال: "لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضرّ نزل به في الدنيا"، وهو الذي أراده أيوب - عليه السلام - في قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرّ} [الأنبياء: ٨٣]، وإخوة يوسف - عليه السلام - في قولهم: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: ٨٨]، فأما الضر في الدين، فهو خوف الفتنة في دِينه، فالظاهر أنه لا بأس معه بالدعاء بالموت، وتمنيه، ويدلّ لذلك قوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وليس به الدّين، إلا البلاء"، متّفقٌ عليه.

[فإن قلت]: قد عُرف أن تمني الموت للضرّ الدنيوي منهيّ عنه، والضرّ الأخرويّ لا بأس به، فإذا كان تمنيه لغير ضرّ دنيويّ، ولا أخرويّ، كيف حكمه؟.

[قلت]: مقتضى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - النهي عنه، ومفهوم التقييد بالضرّ في حديث أنس - رضي الله عنه - أنه غير منهيّ عنه، وقد يقال: هذا المفهوم غير معمول به؛ لأن التقييد خرج مخرج الغالب، في أن الناس لا يتمنون الموت إلا لضرّ نزل بهم، فيفعلون ذلك ضيقًا وضجرًا وسخطًا للمقدور، ولم تَجْر عادة الناس بتمني الموت بغير سبب، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، ولعل هذا أرجح، فيكون تمني الموت في صورة انتفاء الضرر الدنيويّ والأخرويّ منهيًّا عنه أيضًا.

وقد يستثنى من النهي صورة أخرى، وهي ما إذا فَعَل ذلك شوقًا إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا بأس به، وقد فعله جماعة من السلف، ورُوي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أنه قال: "ليأتينّ عليكم زمان، يأتي الرجل إلى القبر، فيقول: يا ليتني مكان هذا، ليس به حبّ الله، ولكن من شدّة ما يرى من البلاء"، وهذا في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثله من قِبَل الرأي، فظهر بذلك أن تمني الموت، والدعاء به جائز، إن كان لمصلحة دينية، وهو خوف الفتنة في دينه، أو الشوق إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، إن كان في ذلك المقام، ومكروه فيما عدا ذلك، وفي حديث معاذ مرفوعًا: "وإذا أردت بالناس فتنة، فتوفني إليك غير مفتون"، وقال تعالى حكاية عن مريم - عليه السلام -: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: ٢٣].