فقوله:"أسلمت"؛ أي: استسلمت، وانقدت، والمعنى: جعلت نفسي منقادةً لك، تابعةً لحكمك؛ إذ لا قدرة لي على تدبيرها، ولا على جلب ما ينفعها إليها، ولا دفع ما يضرها عنها.
(وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ)؛ أي: توكلت عليك في أمري كله، (وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ)؛ أي: اعتمدت في أموري عليك؛ لتعينني على ما ينفعني؛ لأن مَن استند إلى شيء تَقَوَّى به، واستعان به، وخصّه بالظَّهر؛ لأن العادة جرت أن الإنسان يَعتمد بظهره إلى ما يستند إليه.
(رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ)؛ أي: رغبةً في رِفْدك، وثوابك، ورهبةً؛ أي: خوفًا من غضبك، ومن عقابك، قال ابن الجوزيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أسقط "مِنْ" مع ذكر الرهبة، وأعمل "إلى" مع ذكر الرغبة، وهو على طريق الاكتفاء، كقول الشاعر:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
والعيون لا تُزَجَّج، لكن لمّا جمعهما في نَظْم، حَمَل أحدهما على الآخر في اللفظ، وكذا قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ومَثلَ بقوله:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
قال الحافظ: ولكن ورد في بعض طرقه بإثبات "من"، ولفظه:"رهبةً منك، ورغبةً إليك"، أخرجه النسائيّ، وأحمد، من طريق حُصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة. انتهى.
وقال في "العمدة": قوله: "رغبةً، ورهبةً" منصوبان على المفعول له، على طريقة اللفّ والنشر؛ أي: فوّضت أموري إليك رغبةً، وألجأت ظهري عن المكاره والشدائد إليك رهبةً منك؛ لأنه لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك.
ويجوز أن يكون انتصابهما على الحال، بمعنى: راغبًا، وراهبًا.
[فإن قلت]: كيف يُتصور أن يكون راغبًا وراهبًا في حالة واحدة؛ لأنهما شيئان متنافيان؟.
[قلت]: فيه حذفٌ تقديره: راغبًا إليك، وراهبًا منك.
[فإن قلت]: إذا كان التقدير: راهبًا منك، كيف استَعْمَل بكلمة "إلى" والرهبة لا تُستعمل إلا بكلمة "مِنْ"؟.