المذكور، وأنه فوق عرشه، ثم أفسده بما ذكره في آخر كلامه، حيث فسّر قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} بأن المراد هو الكتاب المذكور، وهذا نفي لنصّ صريح بأنه تعالى قد استوى على عرشه استواء ظاهرًا كما يليق بجلاله، بأن المراد استواء هذا الكتاب، وهذا تأويل باطلٌ بلا شكّ، وقد تعقّبه الشيخ البراك، فأجاد، وأفاد، فقال:
وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطّابيّ، فإنه أثبت أن فوق العرش كتابًا، وهو مما اقتضته حكمته، وقدرته، ولكن من المنكَر في كلامه قوله: وقد يكون تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} إلخ فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- مجازٌ، وأن المراد به كون ذلك فوق العرش، فيؤُول معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} إلى معنى: كتابه على العرش استوى، وهذا ظاهر الفساد، فإنه تحريف للكلم عن مواضعه. انتهى كلام الشيخ البرّاك (١)، وهو تعقّب سديد، وتحقيقٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.
(إِنَّ رَحْمَتي) بكسر الهمزة، وتفتح، فالكسر على أنها ابتداء كلام، يحكي مضمون الكتاب، والفتح على أنها مفعول "كَتَبَ"، وفي الرواية التالية:"سبقت رحمتي غضبي"، والمراد بالسبق هو الغلبة.
قيل: المعنى: أن تعلّق الرحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأنَّ الرحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنه متوقّف على سابق عمل من العبد، وبهذا يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يَدخل النار من الموحّدين، ثم يَخرج بالشفاعة أو غيرها.
وقيل: معنى الغلبة: الكثرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم؛ أي: أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أنَّ الرحمة والغضب من صفات الذات، وهو الحقّ، وقال بعض العلماء: الرحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم -عَلَيْهِ السَّلَام- الجنّة أولّ ما خُلق مثلًا، ومقابلها ما وقع من
(١) راجع: كتابة الشيخ البرَّاك على هامش "الفتح" ١٧/ ٤٠٩ - ٤١٠.