للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

إخراجه منها، وعلى ذلك استمرّت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسيع عليهم من الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم، وأما ما أشكل من أمر من يُعذّب من الموحّدين، فالرحمة سابقةٌ في حقّهم أيضًا، ولولا وجودها لخُلّدوا أبدًا.

وقال التوربشتيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: في سَبْق الرحمة بيان أن قِسْط الخَلْق منها أكثر من قِسطهم من الغضب، وإنها تنالهم من غير استحقاق، وإن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا ترى أن الرحمة تشمل الإنسان جنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا، من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك.

وقال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عند قوله: "لمّا قضى اللَّه الخلق" أي: لمّا خلق الخلق حكم حكمًا جازمًا ووعد وعدأ لازمًا، لا خُلف فيه بـ "إن رحمتي سبقت غضبي" شبّه حُكمه الجازم الذي لا يعتريه نسخ، ولا يتطرّق إليه تغيير حُكم الحاكم إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامه عَقَد عليه سِجِلًّا، وحفظه، عنده؛ ليكون ذلك حجة باقية، محفوظة عن التبديل والتحريف، وقوله: "فوق العرش" تنبيه على تعظيم الأمر، وجلالة القدر.

ووجه المناسبة بين قضاء الخلق وسبق الرحمة: أنهم مخلوقون للعبادة شكرًا للنعم الفائضة عليهم، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر، وبعضهم يقصرون فيه فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفّي جزاءه، وزاد عليه ما لا يدخل تحت الحصر، وفي حق المقصر إذا تاب ورجع بالمغفرة والتجاوز، ومعنى"سبقت رحمتي": تمثيل لكثرتها وغلبتها على الغضب بفرسَي رهان تسابقتا فسبقت إحداهما على الأخرى. انتهى بتصرّف (١).

وقال في "اللمعات": وذلك لأنَّ آثار رحمة اللَّه وَجُوده وإنعامه عمَّت المخلوقات كلها، وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب، فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ} [النحل: ١٨]، وقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦]،


(١) "الكاشف عن حقائق السنن" ٦/ ١٨٦٠.