ما سبق في علمه، وفي ذلك يجري خلفه لا فيما يستأنف، بل ما قد جَفّ به القلم، وكل صغير وكبير مسطَّر في اللوح المحفوظ، فأعلمهم أنه ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم في حين سؤالهم وقبله كانوا مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول فيه غير ذلك، ولو كان لا يسعه جهل صفة من صفات اللَّه تعالى، وهي قِدَم العلم لِعِلمهم بذلك مع الشهادة بالتوحيد، ويجعله عمودًا سادسًا للإسلام.
وقال آخرون: أراد بقوله: "لئن قدر اللَّه عليّ"؛ أي: لئن كان قدر اللَّه عليه، والتخفيف في هذه اللفظة والتشديد سواء في اللغة، فَقَدَر هنا عند هؤلاء من القدر الذي هو الحُكم، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء، وهو مثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء: ٨٧].
وللعلماء في تأويل هذه اللفظة في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها من التقدير والقضاء، والآخر: أنها من التقتير والتضييق.
والمعنى في قول هؤلاء -واللَّه أعلم- لئن ضيّق اللَّه عليّ، وبالغ في محاسبتي، ولم يغفر لي وجازاني على ذنوبي ليكونن ما ذُكر.
والوجه الآخر: كأنه قال: لئن كان قد سبق في قَدَر اللَّه وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه، لَيعذبنني على ذنوبي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين غيري، وهذا منه خوف ويقين وإيمان، وتوبيخ لنفسه، وخشية لربه، وتوبة على ما سلف من ذنوبه، وهذا كله لا يكون إلا لمؤمن مصدق مؤمن بالبعث والجزاء.
وفي القدر لغتان مشهورتان: قَدَّر اللَّه -بالتشديد- وقَدَر اللَّه -بالتخفيف- ذكره ابن قتيبة عن الكسائيّ، وذكره ثعلب وغيره. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
وقد ذكرناه والشواهد عليه في التمهيد والحمد له.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجّح عندي من هذه الأقوال هو القول بأن الرجل إنما تكلم بهذا الكلام في حال شدّة خوفه من اللَّه تعالى،