وقال الثوريّ: نسختها الفرائض والحدود، فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء، ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تَبَيَّن بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين، فكذلك عقوبات الآخرة، ومثلُ هذا البيان، وإزالة الإيهام، كان السلف يسمونه نسخًا، وليس هو نسخًا في الإصطلاح المشهور.
وقالت طائفة: هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدةً، بأن يقولها بصدق وإخلاص، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإصرار على معصية.
وجاء من مراسيل الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة"، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تَحْجُزَكَ عما حَرَّم الله، ورُوي ذلك مسندًا من وجوه أُخَر ضعيفة.
ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا، فإنّ تَحَقُّق القلب بمعنى "لا إله إلا الله"، وصِدْقَه فيها، وإخلاصه بها، يقتضي أن يَرْسَخ فيه تَأَلُّه الله وحده إجلالًا، وهيبةً، ومخافةً، ومحبةً، وتعظيمًا، وتوكلًا، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تألُّهُ ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبةٌ، ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذل من القلب جميعُ أهواء النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحب شيئًا، أو أطاعه، وأحب عليه وأبغض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحبّ ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا لله، فالله إلهه حقًّا، ومن أحب لهواه، وأبغض له، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية [الجاثية: ٢٣].
قال الحسن: هو الذي لا يَهْوَى شيئًا إلا رَكِبَهُ، وقال قتادة: هو الذي كلما هَوِيَ شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزُهُ عن ذلك وَرَعٌ، ولا تَقْوَى، ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعًا:"ما تحت ظل السماء إلهٌ يُعْبَد أعظم عندَ الله من هَوًى مُتَّبَعٍ"(١).
(١) موضوعٌ، رواه الطبرانيّ في "الكبير" (٧٥٠٢) وابن عديّ في "الكامل" ٢/ ٧١٥ وفي سنده الحسن بن دينار متروك، وشيخه الخصيب بن جحدر كذّبه شعبة، والقطان، وابن معين، والبخاريّ.