للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال في "الفتح": وقوله في الحديث: "أصبر" أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: "الصبور"، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله، وصالحي عباده؛ لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به؛ لكونه صفة نقص، وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرًا، بل تفضلًا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة، والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم، والاستعظِامِ لمقالتهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: ٥٧]، فإن معناه: يؤذون أولياء الله، وأولياء رسوله، فأقيم المضاف مقام المضاف إليه. انتهى (١).

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت فيما سبق أنه لا يلزم في وصفه تعالى بما ثبت في النصّ محذور أبدًا، فإنا نثبت ما أثبته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لنفسه، على مراده -عَزَّ وَجَلَّ-، لا على ما نَصِف به المخلوق، فللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صفاته العليّة اللائقة بجلاله، وللمخلوق صفاته الدنيّة اللائقة به، فلا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

وقوله: (مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-) "من" صلة لـ "أصبر".

ثم بيَّن الأذى المسموع بقوله: (إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُشرك المشركون بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غيره من مخلوقاته؛ كالأصنام وغيرها، فيعبدونها معه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- (وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ) بالبناء للمفعول أيضًا، (ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ)؛ أي: يعافي أنفسهم، من البلاء والأمراض، (وَيَرْزُقُهُمْ") ما يحتاجون إليه من الأموال، وغيرها.

وقال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ-: قوله: "لا أحد أصبر على أذى من الله أي: أشدّ حلمًا عن فاعل ذلك، وتَرْك المعاقبة عليه، وهو مفسَّر في الحديث: "يجعلون له ندًّا، وولدًا، وهو يرزقهم" وهو من معنى اسمه تعالى الصبور، والحليم، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالنقمة، بل يعفو، ويؤخر ذلك إلى أجَل معلوم عنده بمقدار، والحليم بمعناه، إلا أن في الحليم الصفح مع


(١) "الفتح" ١٧/ ٣١٠ - ٣١١.