({إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}) ذكر هذا على وجه الاستعطاف، والتسليم لأمره، ({وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ})؛ أي: وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم؛ لأنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، وأنت في مغفرتك عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك.
قال الإمام أبو جعفر الطبريّ -رحمه الله- في "تفسيره": القول في تأويل قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)} [المائدة: ١١٧].
قال: وهذا خبر من الله -عز وجل- عن قول عيسى -عليه السلام-، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم: اعبدوا الله ربي وربكم، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}، يقول: فلما قبضتني إليك {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني؛ لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه، وأنا بين أظهرهم.
قال: وفي هذا تبيانُ أن الله -عز وجل- إنما عرّفه أفعالَ القوم، ومقالتهم بعدما قبضه إليه، وتوفاه بقوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[المائدة: ١١٦].
وقوله:{وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يقول: وأنت تشهد على كل شيء؛ لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت، وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت، ورأيت وشهدت.
قال الطبريّ: يقول الله -عز وجل-: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ