للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فأخبره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إقبال الفتن من ناحية المشرق، وكذلك أكثر الفتن من المشرق انبعثت، وبها كانت، نحو الْجَمَل، وصِفِّين، وقَتْل الحسين، وغير ذلك، مما يطول ذكره، مما كان بعد ذلك من الفتن بالعراق، وخراسان إلى اليوم، وقد كانت الفتن في كل ناحية من نواحي الإسلام، ولكنها بالمشرق أكثر، ومثل هذا الحديث قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم، كمواقع القَطْر".

وقد يَحْتَمِل أن تكون الفتنة في هذا الحديث معناها الكفر، وكانت المشرق يومئذ دار كفر، فأشار إليها، والفتنة لها وجوه في اللغة، منها العذاب، ومنها الإحراق، ومنها الحروب التي تقع بين الناس، ومنها الابتلاء والامتحان، وغير ذلك، على حسبما قد ذكره أهل اللغة. انتهى كلام ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

(هَا هُنَا) مشيرًا إلى المشرق، (أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا) كرّره للتأكيد، (مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ") قال الداوديّ: للشمس قرن حقيقةً، ويَحْتَمِل أن يريد بالقرن: قوّة الشيطان، وما يستعين به على الإضلال، وهذا أوجه، وقيل: إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها؛ ليقع سجود عَبَدتها له، قيل: ويَحْتَمِل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه، وقال الخطابيّ: القرن: الأمة من الناس، يَحْدُثون بعد فناء آخرين، وقرن الحيّة أن يضرب المثل فيما لا يُحْمَد من الأمور، وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قِبَل المشرق، فكان ذلك سببًا للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان، ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة.

وقال الخطابيّ: نَجْد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نَجْده بادية الراق، ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة. انتهى.

قال الحافظ: وعُرِف بهذا وَهَاء ما قاله الداوديّ: إن نجدًا من ناحية


(١) "التمهيد" لابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-١٧/ ١٢.