٣ - (ومنها): ما قاله الطبريّ - رحمه الله -: استَشكل بعض الناس كون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يطوون الأيام جوعًا مع ما ثبت أنه كان يرفع لأهله قوت سَنَة، وأنه قَسَم بين أربعة أنفس ألف بعير، مما أفاء الله عليه، وأنه ساق في عمرته مائة بدنة، فنحرها، وأطعمها المساكين، وأنه أمر لأعرابي بقطيع من الغنم، وغير ذلك، مع من كان معه من أصحاب الأموال، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وغيرهم، مع بَذْلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه، وحثّ على تجهيز جيش العسرة، فجهّزهم عثمان - رضي الله عنه - بألف بعير، إلى غير ذلك.
والجواب: أن ذلك كان منهم في حالة دون حالة، لا لِعِوز، وضِيْق، بل تارةً للإيثار، وتارة لكراهة الشبع، ولكثرة الأكل. انتهى.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وما نفاه مطلقًا فيه نظر؛ لِمَا تقدم من الأحاديث آنفًا، وقد أخرج ابن حبان في "صحيحه"عن عائشة - رضي الله عنها -: "من حدثكم أنّا كنّا نشبع من التمر، فقد كذبكم، فلما افتتحت قريظة أصبنا شيئًا من التمر، والودك"، وفي رواية عكرمة، عن عائشة:"لمّا فُتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر".
وفي حديث منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة - رضي الله عنها -: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين شبعنا من التمر".
وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "لمّا فُتحت خيبر شبعنا من التمر".
والحقّ أن الكثير منهم كانوا في حال ضِيق قبل الهجرة، حيث كانوا بمكة، ثم لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل، والمنائح، فلمّا فُتحت لهم النضير، وما بعدها رَدُّوا عليهم منائحهم.
وقريب من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أُخفت في الله، وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من يوم وليلة، ما لي ولبلال طعام يأكله أحد إلا شيء يواريه إبط بلال"، أخرجه الترمذيّ، وصححه، وكذا أخرجه ابن حبان بمعناه.
نَعَم كان - صلى الله عليه وسلم - يختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له، كما أخرج الترمذيّ من حديث أبي أمامة: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعْتُ