وثانيهما: أن السبق إلى الجنة، ونعيمها أَولى من التأخر عنها بالضرورة، فهو أفضل.
وثالثها: أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة، والصراط أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحينئذ لا يُلتفت لقول من قال: إن السبق إلى الجنة لا يدلّ على أفضلية السابق، وزَخْرف ذلك بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنَّهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة، تارة عند الميزان، وتارة عند الصراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صحّ عنه.
قال القرطبيّ: وهذا قولٌ باطل، صدر عمن هو بما ذكرناه، وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدَّم في "كتاب الإيمان" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أوَّل من يقرع باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول الخازن: بك، أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك"، وفي حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:"أنا أول من يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين"، وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلّم ما أُعدّ له فيها، ويبوّء الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة؛ ليخلّص أمته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنوّ على أمته، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فيلازمهم في أوقات شدائدهم، ويسعى في نجاتهم، فيحضرهم عند وزن أعمالهم، ويسقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحقّ، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب، وأكرم تكليم، كيف لا؟ وهو يسمع:"يا محمدًا قل يسمع لك، وسل تُعط، واشفع تشفع، فيقول: أمتي، أمتي، أمتي، فيقال: انطلق فأدْخِل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن"، وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات، ولا تُحيط بها الإشارات، حشرنا الله تعالى في زمرته، ولا خيّبنا من شفاعته.
قال القاضي أبو الفضل - رحمه الله -: ويَحْتَمِل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعّمون في أفنيتها، وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد