الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمئة عام، نصف يوم"، قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي طريق أخرى: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمئة عام"، وقال: حديث حسن صحيح.
وروي أيضًا عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا". تقدم في "المقدمة". قال: هذا حديث حسن صحيح.
فاختلفت هذه الأحاديث في أيّ الفقراء هم السابقون؟، وفي مقدار المدّة التي بها يسبقون، فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يردّ مطلق حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - إلى مقيّد روايته الأخرى، وروايةِ جابر - رضي الله عنه -، فيعني بالفقراء فقراء المسلمين، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي سعيد مخصوصًا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة، وجابر يعمّ جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحًا بما قد صحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم"، وهذا واضح.
وأما الموضع الثاني فقد تقدَّم أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف فصل من فصول السنة، وهو الفصل الذي تُخترف فيه الثمار؛ أي: تُجتَنَى، فسمّي العام بذلك.
ويمكن الجمع بين الأربعين، وبين حديث الخمسمئة عام، بأن سُبّاق الفقراء يدخلون قبل سبّاق الأغنياء بأربعين عامًا، وغير سُبّاق الأغنياء بخمسمئة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سبّاق، والله أعلم.
قال: وهذه الأحاديث حجَّة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى، ويتقرّر ذلك من وجهين:
أحدهما: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء، ويهوّن عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر، وشدائده بمزيّة تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء، عوضًا لهم عما حُرموه من الدنيا، وصبرهم، ورضاهم بذلك.