للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال الأبيّ رحمه اللهُ: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك تورية، لا كذبًا؛ لأن الغلام لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب، والتورية في قوله: حبسني أهلي أبْيَن وأوضح؛ لأن أهله حقيقة إنما هم المرشدون له إلى السعادة، فأراد بهذا اللفظ؛ يعني: لفظ الأهل: الراهب، وكذلك قوله لأهله حبسني الساحر يُمكن تأويله بأنه لا يصل إلى أهله إلا بعد المكث عند الساحر والراهب جميعًا، فيصدق قوله: حبسني الساحر، لأنه كان أحد الحابسين له. انتهى (١).

(فَبَيْنَمَا هُوَ)؛ أي: ذلك الغلام (كَذَلِكَ)، أي: متردّدًا بين أهله وبين الساحر والراهب، (إِذْ) فجائيّة رابطة لجواب "بينما"؛ أي: فبينما هو في أوقات تردده إلى الساحر، ومروره على الراهب فاجأه أن (أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ)، أي: فاجأه إتيانه عليها، قيل: كانت تلك الدابة أسدًا، وقيل: كانت حيّة (٢). (قَدْ حَبَسَتِ)؛ أي: منعت (النَّاسَ) عن المرور إلى حوائجهم، (فَقَالَ) ذلك الغلام في نفسه: (الْيَوْمَ)؛ أي: في هذا اليوم الحاضر، فـ "أل" للعهد الحضوريّ؛ كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣]، (أَعْلَمُ، آلسَّاحِرُ) بمدّ الهمزة، أصلها أالساحر، فأُبدلت الثانية مدًّا، (أَفْضَلُ)؛ أي: أنفع اتباعًا، واقتداء به، (أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟) للاقتداء به، قال الأبيّ رحمه اللهُ: ليس هذا شكًّا منه، وإنما هو استثبات، وطلب طمأنينة. (فَأَخَذَ حَجَرًا) من الأحجار (فَقَالَ) مخاطبًا، ومناجيًا ربه: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ)، أي: دينه الذي هو عليه (أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ)؛ أي: دينه، (فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ) الضارية المانعة للناس من المرور في الطريق، (حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ)؛ أي: لأجل أن يذهب الناس إلى حوائجهم آمنين مطمئنين. (فَرَمَاهَا)؛ أي: تلك الدابّة بذلك الحجر، (فَقَتَلَهَا) برمية واحدة، وهذه كرامة من الله تعالى للغلام، وللراهب أيضًا، (وَمَضَى النَّاسُ)؛ أي: ذهبوا، وانطلقوا إلى حوائجهم، والظاهر أن الناس ما علموا سبب موت تلك الدابّة، وإلا للزموا ذلك الغلام، وسلكوا سبيله، فلعله رماها بالحجر دون أن يطلع عليه أحد من الناس، والله تعالى أعلم.

(فَأَتَى) ذلك الغلام بعد أن قتل تلك الدابّة، وأراح الناس منها (الرَّاهِبَ،


(١) "شرح الأبيّ" ٧/ ٣٠٦.
(٢) "تنبيه المعلم" ص ٤٥٨.