للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تنفَعُهُ شَفَاعَتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذا الْمُرْتَجَى في هذا الحديث قد تَحَقّق وقوعه؛ إذ قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "وجدته في غمرات، فأخرجته إلى ضحضاح"، فكأنه لَمّا ترجّى ذلك أُعطيه، وحُقق له، فأَخْبَرَ به، وهل هذه الشفاعة لبيان قول محقَّق، أو لسان حال؟ اختُلف فيه، فإن تنزّلنا على أنه حقيقة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - شَفَعَ لأبي طالب بالدعاء، والرغبة حتى شُفِّع عارضه قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)} [المدثر: ٤٨]، وقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: ٢٨]، وما في معناه.

[والجواب]: من أوجه، أقربها أن الشفاعة المنفيّة إنما هي شفاعة خاصّة، وهي التي تُخلِّص من العذاب، وغاية ما ذُكر من المعارضة إنما هي بين خصوص وعموم، ولا تعارُض بينهما؛ إذ البناء والجمع ممكنٌ.

وإن تنزّلنا على أنه لسان حال، فيكون معناه: أن أبا طالب لَمّا بالغ في إكرام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والذبّ عنه، خُفّف عنه بسبب ذلك ما كان يستحقّه بسبب كفره، مع ما حصل عنده من معرفته صدقَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كما قدّمناه، ولَمّا كان ذلك بسبب وجود النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وببركة الحنوّ عليه نسبه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه، ولا يُستبعد إطلاق الشفاعة على مثل هذا المعنى، فقد سَلَك الشعراء هذا المعنى، فقال بعضهم [من البسيط]:

فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ … إِلَى الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا شَفَعَا

وقد يورَدُ أيضًا على هذا المعنى، فيقال: هذا إثبات نفع الكافر في الآخرة بما عَمِله في الدنيا، وقد نفاه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله في قصّة ابن جُدْعان الآتي: "لا ينفعه" (١)، وبقوله الآتي أيضًا: "وأما الكافر فيُعطَى بحسنات ما عَمِلَ في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لَمْ تكن له حسنةٌ يُجزى بها" (٢).

[والجواب]: من وجهين:

[أحدهما]: ما تقدّم في بناء العامّ على الخاصّ.

[والثاني]: أن المخفَّف عنه لَمّا لَمْ يجد أثرًا لِمَا خُفِّف عنه، فكأنه لَمْ ينتفع بذلك، إلا ترى أنه يعتقد أنه ليس في النار أشدّ عذابًا منه، مع أن عذابه


(١) سيأتي برقم (٢١٤).
(٢) سيأتي برقم (٢٨٠٨).