(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الاستنثار:
قال الحافظ أبو عمر - رحمه الله -: أجمع المسلمون طرًّا على أن الاستنشاق، والاستنثار من الوضوء، وكذلك المضمضة، ومسح الأذنين، واختلفوا فيمن ترك ذلك ناسيًا أو عامدًا، فكان أحمد بن حنبل يذهب إلى أن مَن ترك الاستنثار في الوضوء ناسيًا أو عامدًا أعاد الوضوء والصلاة، وبه قال أبو ثور، وأبو عبيد في الاستنثار خاصّة، وهو قول داود في الاستنثار خاصة أيضًا.
وكان أبو حنيفة، والثوريّ، وأصحابهما يذهبون إلى إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة دون الوضوء.
وكانت طائفة توجبهما في الوضوء والجنابة.
وأما مالك، والشافعيّ، والأوزاعيّ، وأكثر أهل العلم، فإنهم ذهبوا إلى أن لا فرض في الوضوء واجبٌ إلا ما ذكره الله - عزَّ وجلَّ - في القرآن، وذلك غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. انتهى كلامه بالاختصار (١).
وقال في "الفتح": قوله: (فليستنثر) ظاهر الأمر أنه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق؛ لورود الأمر به، كأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب "المغني" يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار.
وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار.
وفيه تَعَقُّبٌ على من نقل الإجماع على عدم وجوبه.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت آنفًا من كلام ابن عبد البرّ - رحمه الله - أن هؤلاء - أحمد، ومن ذكر معه - قائلون بوجوب الاستنثار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: واستَدَلّ الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حَسّنه الترمذيّ، وصححه الحاكم من قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيّ:"توضأ كما أمرك الله"، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق.
وأجيب بأنه يَحْتَمِل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد
(١) "التمهيد" لابن عبد البر - رحمه الله - ١٨/ ٢٢٦.