وخلاصته ترجيح مذهب الجمهور أن مَن بعد الصحابة - رضي الله عنهم - لا يساويهم في الفضل، وإن عَمِل ما عَمِل؛ لأن رتبة الصحبة، لا يعادلها شيء من الفضائل، على اختلاف أنواعها، وأشكالها.
والحاصل أن الصحابة - رضي الله عنهم - كلّهم، السابقون واللاحقون أفضل من جميع من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، وإن بلغ في العبادة ما يبلغ، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: ٥٤]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم قد بدّلوا بعدك":
قال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: اختلفوا في ذلك، فالذي صار إليه الباجيّ وغيره - وهو الأشبه بمساق الأحاديث - أن هؤلاء الذين يقال لهم هذا القول ناسٌ نافقوا، وارتدّوا من الصحابة وغيرهم، فيُحشرون في أمّة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما تقدّم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها"، وعليهم سيماء هذه الأمة، من الغرّة والتحجيل، فإذا رآهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عرفهم بالسيماء، ومن كان من أصحابه بأعيانهم، فيناديهم:"ألا هلُمّ"، فإذا انطلقوا نحوه حِيلَ بينهم وبينه، وأُخذ بهم ذات الشمال، فيقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا ربّ أمتي أمتي"، وفي لفظ آخر:"أصحابي"، فيقال له إذ ذاك:"إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وإنهم لم يزالوا مرتدّين منذ فارقتهم"، فعند ذاك تذهب عنهم الغرّة والتحجيل، ويُطفأ نورهم، فيبقَون في الظلمات، فيُقتطع بهم عن الورود، وعن جواز الصراط، فحينئذ يقولون للمؤمنين:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}[الحديد: ١٣]، فيقال لهم:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد: ١٣] مكرًا وتنكيلًا؛ ليتحقّقوا مقدار ما فاتهم، فيَعْظُم أَسَفهم وحَسْرتهم - أعاذنا الله من أحوال المنافقين، وألحقنا بالصالحين.
وقال الداوديّ وغيره: يحتمل أن يكون هذا في أهل الكبائر، والبدع الذين لم يَخرُجوا عن الإيمان ببدعتهم، وبعد ذلك يتلافاهم الله برحمته، ويشفع لهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال القاضي عياض رحمهُ اللهُ: والأول أظهر. انتهى (١).