برسالته - صلى الله عليه وسلم - (أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا) من الأشياء في حال من الأحوال (إِلَّا خَالَفَنَا) بفتح الفاء، والفاعل ضمير "هذا الرجل"(فِيهِ) أي إلا في حال مخالفته إيانا في ذلك الشيء، يعنون بذلك أن ما جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مخالف لدينهم.
[تنبيه]: هذا الذي قاله اليهود من مخالفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لدينهم صحيحٌ فيما بدّلوا وغيّروا، واختلفوا فيه، كما قال الله تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [النحل: ٦٤]، وأما ما لم يُبدّل من شرع موسى - عليه السلام -، فإنه عليه السلام ما أتى مخالفًا لأصوله، بل جاء موافقًا له، ومحييًا لما درس منه؛ لأن أصل دين الأنبياء واحد، وإن اختلفت الفروع، كما قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: ١٣]، وأما الفروع فمنها ما يوافق، ومنها ما يخالف؛ لكونه منسوخًا بشرعنا، كما قال الله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: ٤٨].
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية ما ملخّصه: هي إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بَعَث الله به رسلَهُ الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"نحن معاشرَ الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد" - يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضَمّنه كلَّ كتاب أنزله، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: ٢٥]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل: ٣٦].
وأما الشرائع فمختلفة، في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حرامًا، ثم يَحِل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدّة في هذه دون هذه، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: سبيلًا وسنةً، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يُحِلّ الله فيها ما يشاء، ويُحَرِّم ما يشاء؛ لِيَعْلَم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد،