للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

[والثاني]: أنه شُرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح.

ولَعَمْرُ الله إنه خروج عن القياس الباطل المضادّ للدين، وهو على وفق القياس الصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى جَعَل من الماء كل شيء حيّ، وخلقنا من التراب، فلنا مادّتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا، وأقواتنا، وبهما تَطَهُّرنا، وتَعَبُّدنا، فالتراب أصل ما خُلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي رَكَّب الله عليهما هذا العالم، وجَعَل قِوَامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يَجُز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لَوَّثَ ظاهرًا، فإنه يُطَهِّر باطنًا، ثم يُقَوِّي طهارة الباطن، فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقيقة الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثُّر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه.

قال: وأما كونه في عضوين، ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يُفعَل عند المصائب والنوائب، والرجلان محلّ ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله، والذل له والانكسار لله ما هو أحب العبادات إليه، وأنفعها للعبد، ولذلك يُسْتَحَبّ للساجد أن يُتَرِّب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب، كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقايةً، فقال: تَرِّبْ وجهك، وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين.

وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التيمم جُعِل في العضوين المغسولين، وسَقَطَ عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خُفِّف عن المغسولين بالمسح، خُفِّف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مُسِحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت