فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حملُ نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان:"فلم يُسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، وأصرح من ذلك رواية الحسن، عن أنس، عند ابن خزيمة بلفظ:"كانوا يُسِرُّون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ".
فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب؛ كابن عبد البرّ؛ لأن الجمع إذا أمكن تَعَيَّن المصير إليه.
وأما مَن قَدَح في صحته بأن أبا سلمة سعيدَ بن يزيد سأل أنسًا عن هذه المسألة، فقال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه، ولا سألني عنه أحد قبلك، ودعوى أبي شامة أن أنسًا سئل عن ذلك سؤالين، فسؤال أبي سلمة، هل كان الافتتاح بالبسملة، أو الحمدلة؟ وسؤال قتادة، هل كان يبدأ بالفاتحة، أو غيرها؟، قال: ويدلّ عليه قول قتادة في "صحيح مسلم": "نحن سألناه". انتهى، فليس بجيِّد؛ لأن أحمد روى في "مسنده" بإسناد "الصحيحين" أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسيّ عن شعبة، ولم يبيّن مسلم صورة المسألة، وقد بيّنها أبو يعلى، والسرّاج، وعبد اللَّه بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها، عن أبي داود، أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر، من طريق أبي جابر، عن شعبة، عن قتادة، قال:"سألت أنسًا: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؟ فقال: صليت وراء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "، فظهر اتّحاد سؤال أبي سلمة وقتادة، وغايته أن أنسًا أجاب قتادة بالحكم، دون أبي سلمة، فلعله تذكّره لما سأله قتادة، بدليل قوله في رواية أبي سلمة: ما سألني عنه أحدٌ قبلك، أو قاله لهما معًا، فحفظه قتادة دون أبي سلمة، فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع.
وإذا انتهى البحث إلى أن مُحَصَّل حديث أنس نفي الجهر بالبسملة على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه، فمتى وُجِدت رواية فيها إثبات الجهر قُدِّمت على نفيه، لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي؛ لأن أنسًا يبعد جدًّا أن يصحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُدَّة عشر سنين، ثم يصحب أبا بكر وعمر