وعثمان خمسًا وعشرين سنةً، فلم يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعتَرَف بأنه لا يحفظ هذا الحكم، كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرًا، ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التحقيق من الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- حسنٌ جدًّا، إلا قوله:"فتيعيّن الأخذ بحديث الجهر"، فإن الأولى، بل المتعيّن في مثل هذا سلوك طريق الجمع بالعمل بالحديثين، بحمل حديث الجهر على بعض الأوقات؛ لأن العمل بالحديثين معًا إذا أمكن أولى من إلغاء أحدهما بالترجيح، ولو سلكنا مسلك الترجيح لكان حديث أنس -رضي اللَّه عنه- أولى به؛ لقوّته، وصراحته.
والحاصل أن طريق الجمع بحمل حديث الجهر على بعض الأحيان أولى وأرجح مما قاله الحافظ، وهو الذي سلكه الحُذّاق من فقهاء المحدّثين، كالنسائيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان، فكلّهم بوّبوا لقراءة البسملة، وأوردوا حديث الباب، وبوّبوا لتركها أيضًا، وأوردوا حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- الذي أخرجه النسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، من طريق سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم قرأ بأمّ القرآن، حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقال: آمين، فقال ابناس: آمين، ويقول كلما سجد: اللَّه أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: اللَّه أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ (١)، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في الجهر بالبسملة:
قال الإمام البغويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم
(١) حديث صحيح رواه النسائيّ ٢/ ١٣٤، وابن خزيمة في "صحيحه" (٤٩٩)، وابن حبان في "صحيحه" (١٧٩٧)، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٢٣٢.