كلهم يخاف النفاق غلى نفسه، لا يقول: إن إيماني كإيمان جبريل، فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه، وهذا معنى قول ابن المنزل: إن المرجئة تقول: إن حسناتها مقبولة، وأنا لا أشهد بذلك، وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء، وهذا المأخذ الثاني للقاضي، فإن المنازع احتجّ بأنه لما لم يجز الاستثناء في الإسلام، فكذلك في الإيمان. قال: والجواب: أن الإسلام مجرّد الشهادتين، وقد أتى بهما، والإيمان أقوال، وأعمال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وسبعون بابًا"، وهو لا يتحقّق كلّ ذلك منه.
[والمأخذ الثالث]: أن ذلك تزكية للنفس، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النجم: ٣٢]، وهذا يصح للاستحباب، وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز … ، وإن كان مدحًا، وقد يصلح للإيجاب.
قال الأثرم في "السنة": حدثنا أحمد بن حنبل، سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدًا من أصحابنا، ولا بلغني إلَّا على الاستثناء، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، يسأل عن الاستثناء في الإيمان، ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أَعيبه (١) فاستثنى مخافة واحتياطًا، ليس كما يقولن على الشكّ، إنما يستثني للعمل، قال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية [الفتح: ٢٧]: أي إن هذا الاستثناء لغير شكّ، وقد قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون": أي لم يكن يشكّ في هذا، وقد استثني، وذكر قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "نبعث إن شاء الله" من القبر، وذكر قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله"، قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأسًا أن لا يُستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبد الله: إن قومًا تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجّب منهم، وذكر كلامًا طويلًا تركته. فكلام أحمد يدلّ على أن الاستثناء لأجل العمل، وهذا المأخذ الثاني، وأنه لغير شكّ في الأصل، وهو يُشبه الثالث، ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء، وأما جواز إطلاق القول باني مؤمن، فيصحّ إذا عنَى أصل الإيمان، دون كماله، والدخول فيه،
(١) كتب في "هامش مجموع الفتاوى": ما نصّه: سقط في الأصل مقدار نصف سطر.