والحاصل أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- إنما سألوا عن صيغة الصلاة التي أُمِروا بها، ويدلّ على تعيّن هذا المعنى قوله في حديث كعب -رضي اللَّه عنه- الآتي:"عَرَفْنا كيف نسلّم عليك" أي عَلِمنا صيغة السلام عليك المأمور به في الآية، حيث علّمتنا بقولك في التشهد:"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، فما هو اللفظ الذي نصلّي عليك به؟، فالسؤال عن صيغة الصلاة، لا عن المعنى المراد بها، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": واختُلِف في المراد بقولهم: "كيف"، فقيل: المراد السؤال عن معنى الصلاة المأمور بها بأيِّ لفظ يُؤَدَّى، وقيل: عن صفتها، قال عياض: لَمّا كان لفظ الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} والآية [الأحزاب: ٥٦] يَحْتَمِل الرحمة والدعاء والتعظيم، سألوا بأيّ لفظ تُؤَدَّى؟ هكذا قال بعض المشايخ، ورَجّح الباجيّ أن السؤال إنما وقع عن صفتها، لا عن جنسها، وهو أظهر؛ لأن لفظ "كيف" ظاهر في الصفة، وأما الجنس فيُسْأل عنه بلفظ "ما"، وبه جزم القرطبيّ، فقال: هذا سؤالُ مَن أشكلت عليه كيفية ما فَهِم أصله، وذلك أنهم عَرَفُوا المراد بالصلاة، فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها. انتهى.
والحامل لهم على ذلك أن السلام لَمّا تقَدَّم بلفظ مخصوص، وهو "السلامُ عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته"، فَهِمُوا منه أن الصلاة أيضًا تقع بلفظ مخصوص، وعَدَلُوا عن القياس؛ لإمكان الوقوف على النصّ، ولا سيّما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبًا، فوقع الأمر كما فَهِمُوا، فإنه لم يقل لهم قولوا: الصلاة عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك إلخ، بل علَّمَهم صيغة أخرى. انتهى (١).
(قَالَ) أبو مسعود -رضي اللَّه عنه- (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-) أي منتظرًا للوحي (حَتَّى تَمَنَّيْنَا انَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ) إنما تمنّوا ذلك خشيةَ أن يكون النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعجبه السؤال المذكور؛ لما تقرّر عندهم من النهي عن ذلك في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: ١٠١].
(١) "الفتح" ١١/ ١٥٩ - ١٦٠ "كتاب الدعوات" رقم (٦٣٥٨).