للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأقوال الثلاثة تحتاج إلى دليل، بل القول الثاني أبشع، لا ينبغي حكايته إلا للتعجّب منه.

فالحقّ أن نكل العلم في كيفيّة إبصاره -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى العليم الخبير الذي أعطاه تلك المعجزة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مذهب أهل السنّة من الأشعريّة وغيرهم أن هذا الإبصار يجوز أن يكون إدراكًا خاصًّا بالنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- محقّقًا، انخرقت له فيه العادة، وخلق له وراءه، أو يكون الإدراك العينيّ انخرقت له العادة، فكان يرى به من غير مقابلة، فإن أهل السنّة لا يشترطون في الرؤية عقلًا بِنْيَةً مخصوصةً، ولا مقابلة، ولا قربًا ولا شيئًا مما يشترطه المعتزلة، وأهل الْبِدَع، وأن تلك الأمور إنما هي شروط عاديّةٌ يجوز حصول الإدراك مع عدمها، ولذلك حَكَموا بجواز رؤية اللَّه تعالى في الدار الآخرة، مع إحالة تلك الأمور كلّها، ولَمّا ذهب أهلُ الْبِدَع إلى أن تلك الشروط عقليّة استحال عندهم رؤية اللَّه تعالى، فأنكروها، وخالفوا قواطع الشريعة التي وردت بإثبات الرؤية، وخالفوا ما أجمع عليه الصحابة والتابعون، ويؤيّد هذا قولُ عائشة -رضي اللَّه عنها- في هذا: "زيادة زاده اللَّه إياها في حجته" (١).

وقال بقيّ بن مخلد: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى في الظلام كما يرى في الضوء، وقال مجاهد: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لأبصر من ورائي" راجع إلى العلم، وأن معناه: إني لأعلم، وهذا تأويل لا حاجة إليه، بل حَمْلُ ذلك على ظاهره أولى، ويكون ذلك زيادةً في كرامات النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي فضائله؛ لأن ذلك جار على أصول أهل الحقّ كما قدّمناه، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (٢).


(١) قول عائشة -رضي اللَّه عنها- هذا هكذا ذكره القاضي عياض أيضًا في "الإكمال" (٢/ ٣٣٦)، ونقلها الأبيّ أيضًا، ولم يعزها أحد منهم إلى مصدر، فلا أدري من أخرجها، فلينظر.
(٢) "المفهم" ٢/ ٥٧ - ٥٨.