الوجوه، ونشر الشعر، والدعاء بالويل والثبور، كلّ ذلك محرم بلا خلاف بين العلماء، وعلى الصفة الأولى حملوا الأحاديث الواردة في إباحة البكاء، وعلى الصفة الثانية حملوا الأحاديث الواردة في النهي عنه، جمعًا بين الأدلّة، وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الجنائز" - إن شاء الله تعالى -. والله تعالى أعلم.
(لِمَ تَبْكِي؟ فَوَالله، لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ) بالبناء للمفعول، أي طُلب منّي أن أَشْهَدَ (لأَشْهَدَنَّ لَكَ) أي بكونك من أهل الخير والصلاح (وَلَئِنِ شُفِّعْتُ) بالبناء للمفعول أيضًا: أي قُبِلت شفاعتي (لأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ) بحذف المفعول بدليل ما بعده، أي النفعَ لك (لأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ) عبادة - رضي الله عنه - (وَاللهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلَّا حَدَّثْتُكُمُوهُ)، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه دليل على أنه كَتَمَ ما خَشِيَ عليهم المضرّة فيه والفتنة، مما لا يحتمله عقل كلّ واحد، وذلك فيما ليس تحته عَمَلٌ، ولا فيه حَدٌّ من حدود الشريعة، قال: ومثل هذا عن الصحابة - رضي الله عنهم - كثيرٌ في ترك الحديث بما ليس تحته عَمَل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحتمله عقول العامة، أو خُشِيت مضرته على قائله، أو سامعه، لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة، وتعيين أقوام وُصِفُوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم. انتهى (١).
(إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي)، يعني قَرُبْتُ من الموت، وأيست من النجاة والحياة، قال صاحب "التحرير": أصلُ الكلمة في الرجل يجتمع عليه أعداؤه، فيقصدونه، فيأخذون عليه جميع الجوانب، بحيث لا يبقى له في الخلاص مَطْمَعٌ، فيقال: أحاطوا به، أي أطافوا به من جوانبه، ومقصوده قَرُبَ موتي.
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ) أي منعه من دخولها، وهو بمعنى الحديث الماضي: "أدخله الله الجَنَّة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.