قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما أخبر اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أنه ما علّمه اللَّه الشعر، ولم يُخبِر أنه لا ينشد شعرًا، وهذا ظاهر الكلام.
وقيل فيه قولٌ بَيِّنٌ زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولًا موزونًا لا يقصد به إلى شعر، فليس بشعر، وإنما وافق الشعر، وهذا قولٌ بَيِّنٌ، قالوا: وإنما الذي نفاه اللَّه عن نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو العلم بالشعر وأصنافه وأعاريضه وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتّفاق، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه، إذا قَدِموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر، فقال أهل الفطنة منهم: واللَّه لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فواللَّه ما يُشبه شيئًا منها، وما قوله بشعر، وقال أنيسٌ أخو أبي ذرّ: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر (١)، فلم يلتئم أنه شعر، أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب.
وكذلك قال عتبة بن أبي ربيعة، لما كلّمه: واللَّه ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر، وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللُّسْنِ البلغاء.
ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يُعَدُّ شعرًا، وإنما يُعَدّ منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل:"حدّثنا شيخ لنا"، وينادي:"يا صاحب الكسائي"، ولا يُعَدُّ هذا شعرًا. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجواب الأخير هو أحسن الأجوبة عندي، وحاصله أن الشعر المعنيّ في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}[يس: ٦٩] هو الذي يقع عن قصد، وأما ما يقع اتّفاقًا من غير قصد إليه، فلا يُعدّ شعرًا، فما وقع في كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم- موزونًا، وكان ما أنشده لغيره، وما وقع في الآيات القرآنية موافقًا لأوزان بعض البحور، فليس بشعر؛ لما أسلفناه، وبهذا يزول الإشكال، ويحسن المقال، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.