للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قوله: "لا ردّها اللَّه عليك" دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان، فهو معاقبة له في ماله على نقيض مقصوده، فليُلحق به ما في معناه، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته، دُعي عليه على نقيض مقصوده ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد، وإليه ذهب مالك في جماعة، حتى كرهوا رفعَ الصوت في المسجد في العلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت فيه في الخصومة والعلم، قالوا: لأنه لا بُدّ لهم من ذلك، وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لا بدّ لهم من ذلك ممنوعٌ، بل لهم بُدّ من ذلك بوجهين:

أحدهما: ملازمة الوقار والحرمة بإخطار ذلك بالبال، والتحرّز من نقيضه، ومن خاف ما يقع فيه تحرّز منه.

والثاني: أنه إذا لم يتمكّن من ذلك، فليَتَّخِذ لذلك موضعًا يخصّه، كما فعل عمر -رضي اللَّه عنه-، وقال: من أراد يَلْغَط، أو يُنشد شعرًا، فليُخرج من المسجد. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح قول من قال بجواز رفع الصوت في المسجد بالعلم ونحوه؛ لأن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يسألون النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يحتاجون إليه في المسجد رافعين أصواتهم، ولم يمنع أحدًا منهم عن رفع صوته بالسؤال، وكذا كان هو يُجيبهم رافعًا صوته، وهذا مما لا يخفى على من له إلمام بدواوين السنّة، فالقول بالكراهة مما لا دليل عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإنَّ الْمَسَاجِدَ) الفاء للتعليل، أي لأن المساجد (لَمْ تُبْنَ) بالبناء للمفعول (لِهَذَا") أَي لنشد الضالّة، وفي الرواية الآتية: "إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له"، أي وهو الصلاة، وذكر اللَّه تعالى، وقراءة القرآن، والعلم، ونحوها.

وروى ابن أبي شيبة بسند جيّد عن عاصم بن عُمر بن قتادة، أن عمر -رضي اللَّه عنه- سمع ناسًا من التجّار يذكرون تجاراتهم والدنيا في المسجد، فقال: "إنما بُنيت


(١) "المفهم" ٢/ ١٧٤ - ١٧٥.