(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ) -رضي اللَّه عنها- (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ) وفي رواية النسائيّ: "دخلت يهودية عليها، فاستوهبتها شيئًا، فوهبت لها عائشة. . . "، وفي رواية المصنّف من طريق مسروق، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- الآتية بعد حديث:"قالت: دخلت عليّ عجوزان من عجوز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم. . . ".
ولا تنافي بين الروايتين، إذ يمكن أن إحداهما تكلّمت، وأقرّتها الأخرى على ذلك، فنَسَبت القول إليهما مجازًا، والإفراد يُحْمَل على المتكلّمة، أفاده الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وقال: لم أقف على اسم واحدة منهما.
(وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ) يَحْتمل أن يكون للمسلمين، ويَحْتمل أن يكون لهم ولسائر الناس، وهذا أولى؛ لأنه يدلّ عليه الحديث الآتي بلفظ:"أن أهل القبور يُعذّبون في قبورهم"(تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟) أي تعذّبون فيها، قال أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار، قال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ-: استعمالها في العرف لكشف الحال المكروه. انتهى. وتُطلق أيضًا على القتل، والإحراق، والنميمة، والتعذيب.
وإنما نُسبت الفتنة إلى القبر؛ لكون الغالب على الموتى أن يُقبَروا، وإلا فالعذاب يقع على من شاء اللَّه تعالى تعذيبه بعد موته، ولو لم يُدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق، لا يسمعه إلا البهائم، كما جاء في الحديث.
(قَالَتْ) عائشة -رضي اللَّه عنها- (فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-) من الارتياع: وهو الفَزَع، والمراد أنه صار ذلك الكلام عنده بمنزلة خبر، لم يَسبِق له به علمٌ، ويكون شنيعًا منكرًا، ثم ردّه (وَقَالَ:"إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ") أي إنما تُفتن في قبورها يهود، لا المسلمون، وهذا قاله بناءً على أنه لم يوحَ إليه قبل ذلك، ومقتضى الظاهر أنه لو كان لأُوحي إليه، فليس هذا من باب الإنكار بمجرد عدم الدليل، بل لقيام أمارةٍ ما على العدم أيضًا، وفيه أنه يجوز إنكار ما لا يثبت إلا بدليل، إذا لم يقم عليه دليل، وظهر أمارةٌ ما على عدمه، وإن كان حقًّا، ولا إثم بإنكاره،