للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الخطايا، ثم طَلَب تنقية ما عسى أن يبقى منها شيء تنقيةً تامّةً، ثم سأل ثالثًا بعد الغفران غاية الرحمة عليه بعد التخلية.

وقال الكرمانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والأقرب أن يقال: جَعَل الخطايا بمنزلة نار جهنم لأنها مستوجبة لها بحسب وعيد الشارع، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: ٢٣] فعَبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في الإطفاء، وبالغ فيه باستعمال المبرِّدات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد من الثلج، وهو الْبَرَد، بدليل جموده؛ لأن ما هو أبرد فهو أجمد، وأما تثليث الدعوات، فَيَحْتَمِل أن يكون نظرًا إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. انتهى (١).

وقال الحافظ ابن رجب -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَمّا كانت الذنوب تؤثّر في القلب دنسًا، وهو المذكور في قول تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)} [المطففين: ١٤]، ويوجب للقلب احتراقًا طَلَب في هذا الدعاء المباعدة بينه وبينها على أقصى وجوه المباعدة، والمراد المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيويّة والأخرويّة، وربّما دخل فيه المباعدة بين ما قُدِّر منها ولم يَعمله بعدُ، فطَلَب مباعدته منه على نحو قوله: "أعوذ بك من شرّ ما عَمِلتُ، وما لم أعمل".

وطَلَب أيضًا أن يُنقِّي قلبه من دنسها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس.

وطَلَب أيضًا إطفاء حرارتها وحريقها للقلب بأعظم ما يوجد في الدنيا إنقاءً وتبريدًا، وهو الماء والثلج والبرد. انتهى كلام ابن رجب -رَحِمَهُ اللَّهُ- (٢).

وقال ابن دقيق العيد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قوله: "اللهم اغسلني. . . إلخ" يَحْتَمِل أمرين - بعد كونه مجازًا عما ذكرناه:

أحدهما: أن يراد بذلك التعبير عن غاية المحو، أعني بالمجموع، فإنَّ الثوب الذي تتكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء يكون في غاية النقاء.

الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازًا عن صفة بقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: ٢٨٦].


(١) راجع: "عمدة القاري" ٥/ ٣٣.
(٢) "فتح الباري" لابن رجب ٦/ ٣٧٣.