وإذا تقرّر ذلك، فإذا كان هذا الموصوف بذلك الكمال، قد أحسن إلينا، وفاضت نعمه علينا، ووصلنا ببرّه، وعطفه، ولطفه، تضاعف ذلك الميل، وتجدّد ذلك الأنس، حتى لا نصبر عنه، بل يستغرقنا ذلك الحال إلى أن نَذْهَل عن جميع الأشغال، بل ويطرأ على المشتهر بذلك نوع اختلال، وإذا كان ذلك في حقّ من كماله، وجماله، مقيّدًا مشوبًا بالنقص، معَرَّضًا للزوال، كان مَنْ كماله وجماله واجبًا مطلقًا، لا يشوبه نقصٌ، ولا يعتريه زوال، وكان إنعامه، وإحسانه أكثر بحيث لا ينحصر، ولا يُعدّ، أولى بذلك الميل، وأحقّ بذلك الحبّ، وليس ذلك إلا لله وحده، ثم لمن خصّه الله تعالى بما شاء من ذلك الكمال، وأكمل نوع الإنسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن تحقّق ما ذكرناه، واتّصف بما وصفناه، كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، ومن كان كذلك تأهّل للقائهما بالاتصاف بما يُرضيهما، واجتناب ما يُسخطهما، ويستلزم ذلك كلّه الإقبال بالكلّيّة عليهما، والإعراض عمّا سواهما إلا بإذنهما، وأمرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (١)، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" عن بعضهم: محبة الله على قسمين: فرض، وندب.
[فالفرض]: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضا بما يُقَدّره، فمن وقع في معصية، مِن فِعْلِ مُحَرَّم، أو ترك واجب، فلتقصيره في محبة الله، حيث قَدَّم هَوَى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات، والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء، فيُقْدِم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يُسرع إلى الإقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث:"لا يَزْنِي الزاني، حين يزني، وهو مؤمن".
[والندب]: أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف عمومًا بذلك نادر، قال: وكذلك محبة الرسول على قسمين، كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئًا من المأمورات والمنهيات، إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حَرَجًا بما قضاه،