للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال ابن بَطّال، والقاضي عياض وغيرهما رحمهم الله تعالى: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام، كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة، كمحبة الولد، ومحبة مُشاكلة واستحسان، كمحبة سائر الناس، فجمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أصناف المحبة في محبته.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى: ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان عَلِمَ أن حَقَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - آكد عليه من حَقِّ أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن به - صلى الله عليه وسلم - استُنْقِذنا من النار، وهُدِينا من الضلال.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ومن محبته نُصْرَة سنته، والذّبّ عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل مالَهُ ونفسه دونه، قال: وإذا تَبَيَّن ما ذكرناه تبيّن أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه، فليس بمؤمن. انتهى، ذكره النوويّ في "شرحه" (١).

وقال في "الفتح": والمراد بالمحبة هنا حبّ الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطابي، وقال الطيبي: فيه إشعارٌ بالموازنة والترجيح، وتلميح إلى قضية النفس الأمّارة، واللوّامة، والمطمئنة، فإن الأمّارة مائلة إلى اللذّات، وحبّ العاجلة، والمطمئنّة مقابلة بها، مرجّحة لحبّ الآجلة، فإن من رَجَّح جانب الأمّارة كان حب أهله ووالده راجحًا على حبه - صلى الله عليه وسلم -، ومن رجّح جانب المطمئنة كان حكمه بالعكس، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)} [الفجر: ٢٧ - ٣٠]، ولا ارتياب أن من دخل في زمرة عباده المرتَضَين، وانخرط في سلك الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين لا يُحبّ أن ينكُص على عقبيه، فيُرجّح جانب الأهل والأولاد على جانبه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا محال، وفي هذا التقرير أيضًا معنى قوله: "وجد حلاوة الإيمان"، وذلك أن النفس الأمارة موءوفة، كمن غلبت عليه الصفراء، فإنه لا يجد حلاوة العسل، فإذا صحّت واطمأنت زال عنه ذلك المرض، فيجد حلاوة الإيمان. انتهى كلام الطيبيّ (٢).


(١) "شرح مسلم" ٢/ ١٥ - ١٦.
(٢) "الكاشف" ٢/ ٤٤٣.