قلت: وهذا الجواب يَهْدِم أساس القاعدة، إذ يَتَأَتَّى مثله في كل مبتدأ نكرة، مع تعريف الخبر، فما بقي لقولهم بعدم الجواز فائدةٌ، ثم القلب لا يُقْبَل بلا نُكتة، فلا بُدّ لمن يُجَوّز ذلك من بيان نكتة في القلب ههنا.
وقيل: بل النكرة الْمُخَصَّصَة كالمعرفة.
قلت: ذلك في صحّة الابتداء بها، ولا يلزم منه أن يكون الابتداء بها صحيحًا مع تعريف الخبر، وقد صرّحوا بامتناعه.
ويمكن أن يجعل اسم "أنّ" قوله: "أن لا ينصرف"، وخبره الجارّ والمجرور، وهو "عليه"، ويُجعَل "حقًّا"، أو "حتمًا" حالًا من ضمير "عليه"؛ أي: يرى أن عليه الانصراف عن يمينه فقط، حال كونه حقًّا لازمًا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
(أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ) وفي رواية النسائيّ: "قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَكْثَرَ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ".
و"رأى" هنا بصرية، ولذا لا تتعدّى إلا إلى واحد، وهو "رسول اللَّه"، و"أكثر انصرافه" بالنصب بدل اشتمال من "رسول اللَّه"، و"عن يساره" متعلق به.
ويحتمل أن يكون "أكثر" بالرفع على الابتداء، وخبره الجارّ والمجرور، والجملة في محل نصب على الحال من "رسول اللَّه".
وجملة القسم مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وقعت جوابًا لسؤال مقدر، تقديره: لماذا كان اعتقاد وجوب الانصراف عن اليمين نصيبًا للشيطان؟ قال: لأني قد رأيت أكثر انصراف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن يساره.
والحاصل أن هذا الاعتقاد حظّ من حظوظ الشيطان من صلاة العبد؛ لأنه مخالف لهدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه كان ينصرف عن الجهتين، وأكثر انصرافه عن اليسار، فمن اعتقد وجوب الانصراف من جهة معيّنة، فقد خالف السنة، واتبع خُطُوات الشيطان، واللَّه تعالى أعلم.
[فإن قيل]: وقع التعارض بين حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- هذا وبين حديث أنس -رضي اللَّه عنه- الآتي بعده، حيث عبّر كل منهما بأفعل التفضيل، فقال أنس -رضي اللَّه عنه-: "أما أنا فأكثر ما رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينصرف عن يمينه"، وقال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "أكثر ما رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينصرف عن شماله"، فكيف الجمع بينهما؟.