[قلت]: جمع العلماء بينهما بأوجه، فقال النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وجه الجمع بينهما أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعل تارةً هذا، وتارةً هذا، فأَخبَر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدلّ على جوازهما، ولا كراهة في واحد منهما، وأما الكراهة التي اقتضاها كلام ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، فليست بسبب أصل الانصراف عن اليمين أو الشمال، وإنما هي في حقّ مَن يَرَى أن ذلك لا بدّ منه، فإن من اعتقد وجوب واحد من الأمرين مخطئ، ولهذا قال:"يَرَى أنّ حقًّا عليه"، فإنما ذَمَّ من رآه حقًّا عليه.
قال: ومذهبنا أنه لا كراهة في واحد من الأمرين، لكن يُستحبُّ أن ينصرف في جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو شماله، فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها، فاليمين أفضل؛ لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين في باب المكارم ونحوها، هذا صواب الكلام في هذين الحديثين، وقد يقال فيهما خلاف الصواب، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).
وقال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ويمكن أن يُجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يُحمَل حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حُجرة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت من جهة يساره، ويُحْمَل حديث أنس على ما سوى ذلك، كحال السفر.
ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس -رضي اللَّه عنهما- رُجّح ابن مسعود؛ لأنه أعلم، وأسنّ، وأكثر ملازمةً للنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تُكلّم فيه، وهو السُّدّيّ، وبأنه متّفقٌ عليه، بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود تُوافق ظاهر الحال؛ لأن حُجرة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كانت على جهة يساره.
قال: ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختصّ الانصراف بجهة معيّنة، ومن ثَمَّ قال العلماء: