وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحقّ بطول سَجْنٍ من اللسان، وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت، وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكت فأنت سالم، فإذا تكلمت فخذ حَذَرَك، إما لك وإما عليك.
وهذا باب يطول استقصاؤه، والمقصود أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكلام بالخير، والسكوت عما ليس بخير.
وخرّج الإمام أحمد، وابن حبان من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أن رجلًا قال: يا رسول الله علمني عملًا يُدخلني الجنة … فذكر الحديث، وفيه قال:"فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تُطق ذلك فكُفّ لسانك إلا من خير"(١).
فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لا بُدّ من الكلام بالخير، والسكوت عن الشرّ.
وكان السلف كثيرًا يَمدحون الصَّمْتَ عن الشرّ، وعما لا يَعْنِي؛ لشدّته على النفس، ولذلك يقع الناس فيه كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم.
قال الفضيل بن عياض: ما حَجٌّ، ولا رباط، ولا جهاد أشدّ من حبس اللسان، ولو أصبحتَ يُهِمُّك لسانك أصبحت في همّ شديد، وقال: سَجْنُ اللسان سجن المؤمن، ولو أصبحت يُهمك لسانك أصبحت في غم شديد.
وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة، فإن الصمت من ذهب، فقال: معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.
وهذا يرجع إلى أن الكفّ عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات.
وتذاكروا عند الأحنف بن قيس أيما أفضلُ، الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل؛ لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والنطق الحسن ينتفع به من سمعه.