للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ما ادَّعَى أنه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث، ولا سيّما إن جُعل النهي حكمًا منفصلًا عن الأمر، وما استَدَلّ به على ردّه تَعَقّبه الكرمانيّ، فقال: لعلّ ذلك من خصائصه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد رُوي أن الأنبياء يُدفنون حيث يموتون.

قال الحافظ: هذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، عن أبي بكر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "ما قُبض نبيّ إلا دُفن حيث يُقبض"، وفي إسناده حسين بن عبد اللَّه الهاشميّ، وهو ضعيف، وله طُرُقٌ أخرى، مرسلة، ذكرها البيهقيّ في "الدلائل"، ورَوَى الترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ في "الكبرى" من طريق سالم بن عُبيد الأشجعيّ الصحابيّ -رضي اللَّه عنه-، عن أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- أنه قيل له: "فأين يُدفن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: في المكان الذي قَبَض اللَّه فيه روحَهُ، فإنه لم يَقبض روحَه إلا في مكان طيّب". وإسناده صحيح، لكنه موقوف، والذي قبله أصرح في المقصود.

وإذا حُمِل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متّجِهٌ؛ لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حققه الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن استدلال البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بالحديث على النهي عن الصلاة في المقابر صحيحٌ، وكذا استدلال من استدلّ به على النهي عن الدفن في البيوت واضح؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، فإنه ظاهر في ذلك، ولأنه إذا دُفن في البيوت مع أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصلاة في البيوت فلا بُدّ أن تكون الصلاة فيه واقعة عند القبر، وهو ممنوع، وأما دفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته، فإنه خاصّ بالأنبياء عليهم السلام وبهذا يُجمَع بين الأحاديث، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.