للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فقرن الهجر بالابتكار، والرواح عندهم الذهاب والمضيّ، يقال: راح القوم إذا خَفُّوا ومَرُّوا أَيَّ وقت كان.

وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه"، أراد به التبكير إلى جميع الصلوات، وهو المضيّ إليها في أول أوقاتها.

قال الأزهريّ: وسائر العرب يقولون: هَجَّرَ الرجل: إذا خرج وقت الهاجرة، ورَوَى أبو عبيد، عن أبي زيد: هَجَّر الرجل: إذا خرج بالهاجرة، قال: وهي نصف النهار، ثم قال الأزهريّ: أنشدني المنذريّ فيما رَوَى لثعلب، عن ابن الأعرابيّ في "نوادره"، قال: قال جِعْثِنَةُ بن جَوَّاس الرَّبَعِيّ في ناقته [من الرجز]:

هَلْ تَذْكُرِينَ قَسَمِي وَنَذْرِي … أَزْمَانَ أَنْتِ بِعَرُوضِ الْجَفْرِ

إِذْ أَنْتِ مِضرَارٌ جَوَادُ الْحُضرِ … عَلَيَّ إِنْ لَمْ تَنْهَضِي بِوِقْرِي

بِأَرْبَعِينَ قُدِّرَتْ بِقَدْرِ … بِالْخَالِدِيِّ لَا بِصَاعِ حَجْرِ

وَتَصْحَبِي أَيَانِقًا فِي سَفْرِ … يُهَجِّرُونَ بِهَجِيرِ الْفَجْرِ

ثُمَّتَ تَمْشِي لَيْلَهُمْ فَتَسْرِي … يَطْوُونَ أَعْرَاضَ الْفِجَاجِ الْغُبْرِ

طَيَّ أَخِي التَّجْرِ بُرُودَ التَّجْرِ (١)

قال الأزهريّ: يُهَجِّرون بهجير الفجر: أي: يبكرون بوقت السحر.

وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أول النهار، فهذا غاية عملهم في زمان مالك -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهذا ليس بحجة، ولا عند من يقول: إجماع أهل المدينة حجةٌ، فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار، وهذا جائز بالضرورة، وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه، ومصالح أهله ومعاشه، وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار، ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة، وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي ينتظر الصلاة، ثم يصليها مع الإمام أفضل من


(١) "الجفر": موضع بنجد، و"ناقة مضرارٌ": إذا كانت تَنِدُّ وتركب شقها من النشاط، و"الوقر": الثقل، و"الخالديّ": ضرب من المكاييل، و"الأيانق": جمع ناقة.