للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

للجواز، وكأنه كان واعظًا، والكلام في الْخُطَب المتعارفة. انتهى) (١).

(وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا") قال القرطبيّ رحمه الله: البيان هنا الإيضاح البليغ مع اللفظ المستعذَب، وفي هذا الحديث تأويلان:

أحدهما: أنه قصد به الذمّ؛ لأن الإبلاع في البيان يفعل في القلوب من الإمالة، والتحريك، والتطريب، والتحزين ما يفعل السحر، واستَدَلَّ متأوّل هذا بإدخال مالك الحديث في "موطّئه" في "بابُ ما يُكره من الكلام بغير ذكر الله"، وأنه مذهبه في تأويل الحديث.

وثانيهما: أنه على جهة المدح، فإن الله تعالى قد امتنّ على عباده بالبيان حيث قال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)} [الرحمن: ٣، ٤]، وشبّهه بالسحر؛ لميل القلب إليه، وأصل السحر الصرف والبيان يصرف القلوب، وُيميلها إلى ما يدعو إليه.

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا التأويل أولى؛ لهذه الآية، وما معناها. انتهى) (٢).

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الثاني هو الصحيح المختار. انتهى) (٣).

وقال في "المرقاة": قوله: "إن من البيان لسحرًا" أي: بعض البيان يَعمَل عمل السحر، فكما يكتسب الإِثم بالسحر، يكتسب ببعض البيان، أو منه ما يَصْرِف قلوب المستمعين إلى قبول ما يستمعون، وإن كان غير حق، ففي هذا إشارةٌ إلى بيان الحكمة في قَصْر الخطبة، فإنه في مَعْرِض البلية، فيجب عليه الاحتراز من هذه المحنة، حتى لا يقع في الرياء والسمعة، وابتغاء الفتنة، فهو ذمٌ لتزيين الكلام، وتعبيره بعبارة يتحير فيها السامع؛ كالتحير في السحر، ونَهْيٌ عنه كنهيه عن السحر.

وقيل: بل هو مدح للفصاحة والبلاغة، يريد أن البليغ؛ أي: الذي له مَلَكَةٌ يقتدر بها على تأليف كلام بليغ؛ أي: مطابق لمقتضى الحال، يبعث الناسَ على حب الآخرة، والزهد في الدنيا، وعلى مكارم الأخلاق، ومحاسن


(١) راجع: "مرقاة المفاتيح" ٣/ ٤٥١.
(٢) "المفهم" ٢/ ٥٠٤ - ٥٠٥.
(٣) "شرح النوويّ" ٦/ ١٥٩.