للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أضاعَ عمرُ رعيته إذْ زهدَ وبكى وخافَ ربَّه، بلْ ترجمَ الخوفَ إلى عملٍ وأنتجَ زهدُ عمر زهدًا في الأمة .. وحينَ عفَّ عمرُ عفتْ رعيتُه.

وإن كان الفقراءُ قد استغنوْا في خلافتهِ حتى جعلَ الرجلُ يأتي بالمالِ العظيمِ فيقول: اجعلوه حيثُ شئتم، فما يبرحُ حتى يرجعَ بمالهِ كلِّه، وذلكَ أنَّ عمرَ قدْ أغنى الناسَ .. فما عادَ محتاج، فالمتأملُ في خلافتهِ يرى أنَّ مواردَ الدولةِ ما زادتْ إلى حدٍّ يستغني معهُ كلُّ الناس، بل نقصَ منْ مواردِ بيتِ المال ما كانَ يؤخذُ منْ جزيةٍ على النصارى الذين أسلموا، وحينَ كتبَ إلى عمرَ عاملُه على مصرَ يقول: إنَّ أهلَ الذمةِ قدْ شرعوا في الإسلامِ وكسروا الجزيةَ، فكتبَ عمرُ يقول: إنَّ اللهَ بعثَ محمدًا داعيًا ولمْ يبعثْهُ جابيًا، فإذا أتاكَ كتابي فإنْ كانَ أهلُ الذمةِ أشرعوا في الإسلامِ وكسروا الجزيةَ فاطوِ كتابَك وأقبلْ (١).

أجلْ، لقدْ كانَ لزهدِ عمرَ في الدنيا ونزاهتِه في أموالِ المسلمين، ولقدْ سرتْ نزاهتُهُ على ولاته .. وسرى الزهدُ في أهلِ بيتِه .. وألزمَ عشيرتَه مما ألزمَ بهِ نفسَه .. ولمْ يقبلِ الشفاعةَ فيما أخذَ الأمةَ بهِ منَ العدلِ وإحقاقِ الحقِّ، ولقدْ فزعتْ بنو أميةَ وضجروا مما ألزمَهُمْ به منْ ردِّ المظالمِ وسياسةِ المال، حتى وسَّطوا عمَّتَه فاطمةَ بنتَ مروان، فقدَّرَ لها رحِمَها وحقَّها، ولكنهُ أبانَ لها عنْ سياستِهِ وعظيمِ مسئوليته، وما زالَ يُحدِّثُها حتى قالت: حَسْبُكَ، فلستُ بذاكرةٍ لكَ شيئًا، ورجعتْ إلى بني أميةَ وأبلغتْهم رسالتَه (٢).

أجل، ما كانَ عمرُ رحمهُ اللهُ يأمرُ عشيرَتَهُ بشيءٍ ويخالفُه .. وحَسْبُكَ أنْ تعلمَ رصيدَهُ قبلَ الخلافةِ وبعدَها، وهذا أحدُ أبنائِهِ عبدُ العزيِز بنُ عمرَ يقول: دعاني


(١) السير ٥/ ١٤٧.
(٢) السير ٥/ ١٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>