للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخطبةُ الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ يُعطي الدنيا مَنْ أحبَّ ومَنْ لمْ يحبَّ، ولا يُعطي الدِّين إلا مَنْ أحبَّ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، يَهديْ منْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ من هادٍ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه كانَ أحرصَ الناسِ على هدايةِ الأمّةِ للخيرِ في حياتهِ، وما تزالُ سنّتُه تدعو وترغِّبُ وتُبيِّنُ وتَهديْ، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (١).

يا عبدَ اللهِ: يقولُ العارفونَ: إنَّ الإنسانَ يولدُ مرتينِ: مرةً عندما يخرجُ منْ ظلماتِ رَحِمِ أمِّهِ إلى نورِ الدنيا، ومرةً عندما يَخرجُ منْ ظلماتِ المعصيةِ إلى نورِ الطاعةِ.

وإذا كانَ الميلادُ الأولُ يشتركُ فيهِ الخَلْقُ كلُّهمْ مسلمُهمْ وكافرُهمْ، بَرُّهمْ وفاجرُهمْ، فإنَّ الميلادَ الآخَرَ خاصٌّ بمَنْ وفَّقهُ اللهُ للهدايةِ ودلَّه على طريقِ الاستقامةِ وأرادَ لهُ سعادةَ الدنيا والآخرةِ.

إنَّ هذا النوعَ منَ الميلادِ - أعني التحوُّلَ منَ المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومنَ الضلالةِ إلى الهدى- لا يتقيَّدُ بزمانٍ محدَّدٍ، فقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ وأنتَ في العشرينَ أو الأربعينَ من عمرِك أو قبلَ ذلكَ أو بعدَ ذلكَ، وقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ في نفسِ الساعةِ التي تولَدُ فيها ولادتَكَ الحقيقيةَ.

وهذا النوعُ منَ الميلادِ -وهُوَ التحوُّلُ منْ السيِّئِ إلى الحسنِ- لا يتقيَّدُ بمكانٍ، فلربَّما وُلدتَ وأنتَ في المسجدِ، أو الشارعِ، أو البيتِ، أو السجنِ، أو على فراشِ المرضِ، في البَرِّ أو البحرِ أو الجوِّ، قدْ تُولَد وتهتدي وأنتَ في


(١) سورة الإسراء، الآية: ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>