كان يقول له (من هو؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ من ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟ .، . من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا الذي يدبره ومن ذا يحوزه؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ وكان يقول له ذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضًا وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد .. ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ... وأصحاب الدعوة إلى دين الله ... خليقون أن يقفوا طويلًا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوةُ لها منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن يمضي في دعوته يعرّفُ الناسَ بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي أيسر السبل إلى قلوب العَرب؟ فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى إله ومعنى لا إله إلا الله ... كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده إلى الله ... ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام.
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناد ... وكان في استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق الأمين ... كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ... ولو دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له