تلك دعوة الكاتب، وهي وإن كانت تظهر هويته بصراحة ووضوح، إلا أنه يكشف لنا عن هويته، بكلام أكثر صراحة حينما يقول:(إن للدين سببًا إنسانيًا. وإن لكل دين جانبين إيمانيًا ودنيويًا، ومن ثم فللقرآن -الذي دون بعد نزوله بفترة هذان الجانبان، الأول باعتباره كلامًا موحى به، والثاني باعتباره مشتملًا على تنظيم الحياة لمن نزل عليهم. ويمعن أكثر فأكثر، وهو يكشف عن هويته حينما يقول: (إن للدين دورًا في حياة الإنسان ما ظل الإنسان يموت، لأنه يبشره بحياة بعد الموت، يثير في نفسه القدرة على تقبل بؤس الحياة وشقائها. وإذا كان للدين هذا الأثر فإن له معنى تاريخيًا).
وبعد ذلك يحاول تطبيق نظريته هذه على القرآن في مواضع متعددة فيقول: فكون أول آيات القرآن نزولًا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق: ١]، فإن لهذا معنى تاريخيًا. وكون الصوم كان في أول المحرم، ثم صار في رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فإن لهذا معنى اجتماعيًا. وكذلك كون الصلاة في أوقات يعينها اختلاف دورة الشمس، وكون الحج إلى الكعبة، التي كانت الأسواق التجارية على مقربة منها، كل هذا يدل على هذه المعاني التاريخية الاجتماعية. وهكذا يمضي الكاتب في تلك الشقشقات، تظهر أهدافه تارة، وما يخفيه في صدره أكبر وأعظم.
[الدوافع الحقيقية لتلك الدعوة]
هذه الأقوال لا تدل على جهل صاحبها في الدين فحسب، وإنما تدل كذلك على مدى تأثره وارتباطه، بتلك النظريات المادية بعامة واليسارية بخاصة. إنها النظريات التي طغت على كثير من مثقفينا في هذا الظرف العصيب، وتلك المرحلة الصعبة التي تمر بها أمتنا، ولا أظن أن الكاتب نسي أو تناسى أن الفرنسي الذي استشهد به، والذي قال عنه إنه سبق علماء الأزهر، بمحاولة تفسير عصري للقرآن، هو شيوعي يهودي. وبالطبع فعلماء الأزهر بل وكل مسلم، مهما كان علمه يعجز -ولكن عن غير ضعف- أن يفسر القرآن تفسيرًا تبث فيه اليهودية والشيوعية