عن جو البيان الذي كان أريجه يملأ النفوس انتشارًا وسحره يستولي على المشاعر إعجابًا وإكبارًا، فاضمحل ذلك كله، وخلا ذلك الجو من بديع الصنعة وجمال الروعة، فأصبح مكفهرًا، لا تذوق فيه النفوس حلاوة، ولا يشعر الوجدان له بطلاوة.
وأرى في تعميم هذا الحكم مجانبة للإنصاف وإنكارًا لجهد العلماء، بل افتئاتًا على الحقيقة التاريخية، صحيح أن دراسة البلاغة قد تحولت فيما بعد عن خطها الفسيح الواسع، ومدارها الرحب إلى مسار ضيق خانق، وأصبحت العناية باللفظ شكلًا لا حقيقة ومضمونًا، وكادت تكون مادة من مواد الفلسفة ذات الجدل العقيم. لكن مع هذا بقي للبيان القرآني صورته، ولو لم تكن هذه الصورة واضحة الرؤية.
[جهود المتأخرين]
ولعل من الإنصاف أن أذكر هنا، أن لابن تيمية ولابن القيم جهدًا لا ينكر في هذا المضمار، نلمح هذا في آثارهما. فهذا تفسير شيخ الإسلام، وإن لم يكن شاملًا للسور والآيات فإنه يحوي مجموعة يظهر منها الفهم العميق لآيات القرآن بعامة، والاتجاه البياني بخاصة. وهذه تفسيرات ابن القيم المتفرقة في كتبه، يلمح منها القارئ هذا الأثر البياني واضحًا، ولقد جاء بعد ذلك البرهان البقاعي فكان له أثر يذكر وجهد لا ينكر، وكثير من المعلقين على كتب التفسير، نجد لهم دقائق في التعبير، يرقص القلب لها طربًا، وذلك مثل الطيبي وأبي السعود والشهاب الخفاجي، وإذًا فمع الجمود والركود، الذي أصاب الحركة الإسلامية كلها، والتفسير جزء منها، بقي للتفسير بعض المنافذ التي تشع منها نورانيته، حتى عند هؤلاء الذين لم يكونوا مفسرين، وإنما كانوا يجمعون المتفرقات من هنا وهناك، مثل الشيخ الجمل رحمه الله - أقول حتى عند أمثال هؤلاء نجد بعض تلك اللقطات، وإن كان العثور عليها شاقًّا أحيانًا، وجاء صاحب روح المعاني رحمه الله، فجمع ولكنه أشبع وأبدع، وأبرز كثيرًا من مكنونات البيان القرآني بحلل، ربما